الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
قد بينا أنه إنما يقتل منهم من يقاتل دون من لا يقاتل فذكر في جملة من لا يقاتل أصحاب الصوامع والسياحين في الجبال الذين لا يخالطون الناس وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال: سألت أبا حنيفة عن قتل أصحاب الصوامع والرهبان فرأى قتلهم حسناً لأنهم فرغوا أنفسهم لنوع من أنواع الكفر فيفتتن الناس بهم فيدخلون تحت قوله تعالى: وقد بينا نظيره في الشيخ الفاني إذا كان ذا رأي في الحرب فإنه يقتل دون أقطع اليد اليسرى أو أقطع أحد الرجلين فهو ممن يقاتل لأن مباشرة القتال في الغالب تكون باليد اليمنى فأما إذا كانت صحيحة منه فهو على وجه يمكنه المشي كان من جملة المقاتلة فيقتل. والأخرس والأصم والذي يجن ويفيق في حال إفاقته يقتل لأنه ممن يقاتل وله بنية صالحة للقتال واعتقاده يحمله على القتال فيقتل دفعاً لشره. ومن قتل أحداً منهم ممن لا يقاتل فليس عليه سوى الاستغفار لأنه غير معصوم وإن وقع اليأس من قتاله. والقسيسون والشمامسة والسياحون الذين يخالطون الناس فلا بأس بقتلهم لأنهم من جملة المقاتلة إما برأيهم أو بنفسهم إن تمكنوا من ذلك فيجوز قتلهم وإن لم ير منهم القتال باعتبار أن حقيقة مباشرة القتال مما لا يطلع عليه كل أحد في كل وقت ومكان فالبنية الصالحة لذلك مع السبب الحامل عليه يقام مقامه ما لم يغلب عليه دليل ظاهر يمنعه منه ولا ينبغي للمسلمين إن كانت بهم قوة على أسرهم أن يدعو الصبيان والنساء حتى يخرجوهم إلى دارنا لما فيه من الكبت والغيظ للمشركين ولما فيه من المنفعة للمسلمين فإنهم يصيرون خولا للمسلمين ولما فيه من قطع منفعة المشركين عنهم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: واستحيوا شرخهم فأما الشيخ الفاني الذي لا يرجى له نسل ولا منفعة عنده سوى أن يفادى فإن شاءوا أخذوه وأسروه وإن شاءوا تركوه لأن المقصود بأسره ليس إلا تحصيل المال بالمفاداة وهم بالخيار فيما يتمكنون منه من الأموال إن شاءوا أخذوه وإن شاءوا تركوه وهذا لأن المستحق عليهم دفع فتنة الكفر فأما اكتساب المال فلا بأس به ولكنه غير مستحق شرعاً ولا ينبغي أن يتركوا المعتوه إذا قدروا على إخراجه لأنه يرجى إقامته ولأنه يولد له ويتركه عون للمشركين كما في ترك النساء والصبيان ولا يتعرض للذين لا يخالطون الناس من المترهبين لأنه لا يرجى لمثلهم نسل حتى يكون في ذلك عون للمشركين وذوو الآفات الذين لا يقتلون يؤسرون ويخرجون إلى ديارنا لأن في تركهم في دار الحرب قوة للمشركين فإنهم يصيبون النساء فيلحقون ولا ينبغي أن يتركوا في دار الحرب إذا ظفروا بهم فكل من جاز قتله منهم فلا إشكال أنه يجوز أسره وإخراجه. ثم بعد الإخراج للإمام فيهم رأي إن شاء استرقهم وإن شاء قتلهم وكل من لا يحل قتله إذا لم يقدروا على إخراجه بأن كانوا جريدة خيل فليدعوه ولا يعرضوا له لأن قتله محرم شرعاً لا لمنفعة أسره واسترقاقه فبالعجز عن الأسر لا يصير القتل الذي هو محرم مباحاً للمسلمين وما يقدرون على إخراجه من الكراع والسلاح فإنه يكره لهم تركه في دار الحرب بعد التمكن من إخراجه لأن هذا مما يتقوى به المشركون على قتال المسلمين فحكمه حكم بني آدم. فأما البقر والغنم والمتاع فإن شاءوا أخرجوه وإن شاءوا تركوه لأنه مما لا يتقوى به على القتال عادة ألا ترى أن الكراع والسلاح يكره للمسلمين حملها إليهم للتجارة بخلاف سائر الأموال. وإن المستأمن في دارنا إذا اكتسب شيئاً من ذلك يمنع من إدخاله دار الحرب مع نفسه بخلاف سائر الأموال فإذا ثبت هذا الخيار لهم في المال فكذلك في العجوز الكبيرة التي لا يرجى لها ولد لأنه لا منفعة فيها سوى الفداء بالمال ولهذا جاز للمسلمين إذا أسروها أو شيخاً فانياً أن يفادوهما بمال لأنه لا منفعة للمسلمين عندهما ولا مضرة على المسلمين في كونهما في دار الحرب وكل من ذكرنا أنه لا يقتل من ذوي الآفات وغيرهم إذا باشر القتال أو حرض على ذلك أو كان ممن يطاع فيهم فلا بأس بقتله فإن في قتله كسر شوكتهم وتفرق جمعهم وهو المقصود حتى إن ملك القوم لو كان صغيراً أو امرأة أو شيخاً فانياً فلا بأس بقتله لأن فيه معنى الكبت والغيظ لهم وفيه تفريق منعتهم ولو أن راهباً أو سياحاً دل المشركين على عورات المسلمين فعلم به المسلمون فلا بأس بقتله لأنه أعان المشركين بما صنع فهو بمنزلة شيخ له رأي في القتال فلا بأس بقتل مثله على ما روي أن دريد بن الصمة قتل وكان شيخاً كبيراً لأنه كان ذا رأي في الحرب. وإذا لقي المسلم أباه المشرك في القتال فإنه يكره له أن يقتله لقوله تعالى: وبيان هذا فيما أخبر الله تعالى عن الخليل صلوات الله عليه حين قال له أبوه: ولو ظفر المسلمون بالسبي والمعتق الذي كان يقاتل معهم وقد قتل بعضهم فإنه لا ينبغي لهم أن يقتلوهما بعد الأسر لأنه قد اندفع قتالهما بالأسر. فإن كانوا لا يقدرون على إخراجهما وهم يخافون إن خلوا سبيلهما أن يعودا إلى قتال المسلمين فلا بأس بقتلهما لأنه لم يقع الأمن عن قتالهم. وهما في ذلك كالجمل الصئول إذا أخذه رجل فمنعه من الصيال وهو يخاف إن خلى سبيله أن يعود لمثل ذلك فلا بأس بأن يقتله ويغرمه لصاحبه كما في حال صياله وهذا لأن ما يتوهم منه قد ظهر أثره فيما مضى فيتأيد هذا الظن بذلك الظاهر ويجعل كالقائم في الحال ألا ترى أن المراهق لو كان ملك القوم فظفروا به وعجزوا عن إخراجه فإنه لا بأس بقتله. لأن في تركه خوف الهلاك على المسلمين باعتبار غالب الرأي وفيما لا يمكن الوقوف على حقيقته يبنى الحكم على غالب الرأي. فإن كانوا يأمنونهما على أنفسهم ولكن لا يأمنونهما إن دخلت سرية غيرهم أن يقاتلا بهم أو يقتلا بعضهم خلوا سبيلهما لأنهم أمنوا جانبهما ودخول سرية أخرى بعدهم موهوم أنهم يدخلون من هذا الجانب أو من جانب آخر فلا ينبغي لهم أن يقدموا على قتل حرام باعتبار هذا الموهوم. ولو أن راهباً نزل من صومعته إلى بعض مدائنهم فأصابه المسلمون في الطريق أو في المدينة فقالوا: إنما خرجت هارباً منكم خوفاً على نفسي فلهم ألا يصدقوه ويقتلوه لأنهم وجدوه في موضع الاختلاط بالمقاتلة منهم وإنما لا يقتل من لا يخالط الناس فمن ظهر منهم خلاف ذلك فيهم فلا بأس بقتله وهو فيما يدعي من العذر لنفسه منهم فلا يصدق. وإن وقع في قلب المسلمين أنه صادق فالمستحب لهم ألا يقتلوه ولكن يأخذونه أسيراً لأن غالب الرأي بمنزلة اليقين فيما بني أمره على الاحتياط والقتل مبني على ذلك فإنه إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه والمقصود يحصل بأسره. ومن وجدوه في كنيسة أو دير لم يطين الباب على نفسه فلا بأس بقتله لما بينا أن الناس إذا كانوا يدخلون عليهم ويصدرون عن رأيهم فهم من أئمة الكفر وفي قتلهم كسر شوكة المشركين. ولو أن المسلمين أتوا راهباً في صومعته فسألوه عن الطريق أو عن أهل الحرب أين هم فقال: إني أعرف ذلك ولكني لا أخبركم لأني لا أخبر عنكم فليس ينبغي للمسلمين أن يتعرضوا له لأنه أظهر بعبارته ما لأجله وجب ترك التعرض له وهو انقطاعه بالكلية عن المخالطة مع الناس والنظر في أمورهم والميل إلى اكتساب مودتهم أو عداوتهم فإن دلهم على الطريق فوجدوه قد خانهم واستبان ذلك للمسلمين فلا بأس بقتله وأسره ولأنه بهذه الخيانة أظهر الميل إلى المشركين وأظهر العداوة مع المسلمين حيث دلهم على ما فيه هلاكهم بعدما طلبوا منه الدلالة على الطريق الذي يكون السلوك فيه سبباً لنجاتهم. وإن رأى المسلمون راهباً في صومعته حبشياً والقوم روم فاستنكروه فليسألوه عن أمره لأنه اشتبه عليهم حاله فطريق إزالة الاشتباه السؤال قال الله تعالى: الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وإن قال: كنت عبداً لرجل من المسلمين وكنت نصرانياً فترهبت ها هنا أخذوه فردوه على مولاه لأنه أقر بأنه عبد آبق ومن تمكن من رد الآبق على مولاه فعليه أن يفعل. وإن قال: أسرني أهل الحرب فأعتقوني فترهبت فإنه لا يصدق ولكنه يؤخذ فيرد على مولاه لأنه أقر بالرق والملك لمولاه ثم ادعى ما يزيله فلا يصدق فيه إلا لحجة كالعبد يدعي العتق على مولاه وإن قال: كنت عبداً مسلماً فتنصرت وترهبت فقد أقر بالردة فيعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل وإن أسلم رد على مولاه وإذا اقتتل المسلمون والمشركون فانهزم المشركون ووجد المسلمون من المشركين قوماً جرحى فلا بأس بأن يجهزوا عليهم وإن كان يعلم أنهم لا يعيشون مع تلك الجراحات لأن هؤلاء مقاتلة وإنما أعجزهم إثخان الجراحات عن مباشرة القتال فلا بأس بقتلهم كالمأسورين المربوطين في أيدينا وإن شاءوا تركوهم حتى يذوقوا الموت كل ذلك واسع لأن في كل جانب للمسلمين نوع شفاء الصدور والأصل فيه حديث محمد بن مسلمة فإنه بارز مرحباً يوم خيبر فضربه فقطع رجليه فقال مرحب: أجهز علي يا محمد فقال: لا حتى تذوق من الموت مثل ما ذاق أخي محمود ثم مر به علي رضي الله تعالى عنه فأجهز عليه وأخذ سلبه فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه محمد بن مسلمة ولو كان في حياة مرحب طمع لما قال له محمد: لا حتى تذوق من الموت مثل ما ذاق أخي محمود وما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه دون علي رضي الله تعالى عنه وقد أجهز علي رضي الله تعالى عنه وهو بهذه الحالة ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فامتنع محمد من الإجهاز عليه ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً فعرفنا أن كل ذلك واسع. توضيحه: أنه لا بأس بأسره وقسمته في جملة من يقسم ما لم يمت فعرفنا أنه بمنزلة الأسير وللإمام رأي في قتل الأسير وتركه فهذا مثله. ولو وجدوا مريضاً في حصن من حصونهم فلا بأس بأن يقتلوه لأن المرض يعجزه عن القتال ولا يخرجه من أن يكون من المقاتلة ولأن المرض على شرف الزوال فلا يقع به اليأس عن قتاله مع المسلمين. إلا أن يحيط العلم بأنه لا يعيش مع هذا المرض أو يكون عليه أكبر الرأي فحينئذ لا ينبغي أن يقتلوه لأنه وقع اليأس عن قتاله فحاله الآن كحال الشيخ الفاني. وإن كان أهل العدل يقاتلون أهل البغي فظفروا منهم بجرحى فإن كان القوم فيه لا يلجئون إليه فلا بأس بأن يجهز على جريحهم لأن الجريح في هذه الحالة كالأسير ويقتل أسيرهم ويتبع مدبرهم إذا بقيت لهم فيه فكذلك يجهز على جريحهم. إلا أن يكون الجريح ممن لا يطمع له في الحياة فحينئذ يكره قتله لأنه وقع اليأس عن قتاله فإنه ممن لا يخاف عليه أن يلجأ إلى فئة فيعين على أهل العدل أبداً فيكون الحال في حقه كالحال فيما إذا انهزموا ولم يبق لهم فئة يلجئون إليها وهناك لا يقتل أسيرهم ولا يتبع منهزمهم فكذلك لا يجهز على جريحهم والمعنى في الفرق بين أهل البغي وأهل الحرب في هذا أن السبب الداعي إلى المحاربة قائم في حق أهل البغي لا يوجد مثل ذلك الاعتقاد لأنهم من أهل الإسلام وإنما يحملهم على القتال التقوي بالفئة والمنعة فإذا زال ذلك لم يحل قتلهم بعد ذلك. وإن وجد المسلمون معتوهاً من أهل الحرب لا يعرف قتالاً ولا يدري ما يصنع به ولكن في يده سيف يضرب به من دنا إليه من المسلمين أو من غيرهم فإني أحب للمسلمين ألا يقتلوه ولكن يأخذونه أخذاً ليمنعوه من ذلك لأنه ليس به قصد إلى القتال وإنما يباح قتل من يكون به القصد إلى القتال أو يكون ممن يدعوه دينه إلى ذلك وهذا إذا كان بحيث يضرب من يدنو منه من المسلم والمشرك فعرفنا أن دينه لا يدعوه إلى ذلك فيكون حاله الآن كحال البهيمة والبهيمة إذا لم تقصد أحداً ولكنها تضرب كل من دنا منها لم يحل قتلها إلا أن تحمل على المسلم وتضطره إلى ذلك فحينئذ لا بأس بقتلها فهو الحكم في حق هذا المعتوه أيضاً. إلا أن هناك يغرم قاتلها قيمتها للمسلم لبقاء المالية والتقوم فيها حقاً للمسلم وذلك لا يوجد في المعتوه الحربي ولو ظفروا برجل معه سيف يقاتل به فلما أحس بالمسلمين تجانن ورأى المسلمون أنه مجنون فإن هذا على ما يقع في قلوب المسلمين لأنه لما انقطع عنهم سائر الأدلة التي يقفون بها على حاله وجب المصير إلى أكبر الرأي بمنزلة التحري في أمر القبلة عند انقطاع الأدلة وقد بينا أن أكبر الرأي فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته بمنزلة الحقيقة. فإن وقع عندهم أنه مجنون فأسروه ثم استبان لهم أنه صحيح فلا بأس بقتله لأن أسرهم إياه ليس بأمان له منهم ألا ترى أنه لو كان صحيحاً حين أسروه كان لهم رأي في قتله فكذلك إذا أسروه في حال اشتباه أمره. ولو أخذوا غلاماً مراهقاً ولم يعلموا أنه بالغ أو غير بالغ فقد بينا أن بعض الناس يجعلون العلامة في ذلك نبات العانة استلالاً بحديث بني قريظة والمذهب عندنا أن ذلك لا يمكن تحكيمه لاختلاف أحوال الثاني في ذلك فلا ينبغي أن يقتلوه حتى يعلم أنه قد تمت له خمس عشرة سنة أو احتلم قبل ذلك واعتبر في هذا الموضع أن يعلموا ذلك من حاله دون غالب الرأي. لأن صغره معلوم بيقين واليقين لا يزول إلا بيقين مثله فأما جنون الذي تجانن قبل أخذه لم يكن معلوماً بيقين فلهذا اعتبر فيه أكبر الرأي. وإن أخذوه وهو غير بالغ ثم طال مكثهم في دار الحرب حتى بلغ فصار رجلاً فإنه لا يحل لهم أن يقتلوه لأنهم أخذوه وهو ممن لا يجب عليه القتل فمعنى هذا الكلام أنه لم يكن من جملة المقاتلة في وقت من الأوقات لأنهم أخذوه وهو صبي والصبي ليس من المقاتلة. وبعدما بلغ فهو فيء للمسلمين بمنزلة سائر عبيدهم فلا يكون مقاتلاً معهم بخلاف الذي تجانن إذا أخذ فاستبان أنه صحيح. لأنه تبين أنه كان مقاتلاً قبل أن يأخذوا به احتال بتلك الحيلة لينجو من القتل حتى أنه لو كان معتوهاً وبرأ في أيديهم فإنه لا يحل لهم أن يقتلوه للمعنى الذي أشرنا إليه في اصبي وإن قتل هذا الصبي الذي بلغ أو برئ رجلاً من المسلمين قتله الإمام به قصاصاً. لأنه صار مخاطباً بمنزلة غيره من عبيد المسلمين. وإن كان قاتل المسلمين بعد بلوغه وبرئه قبل أن يؤخذ ثم أخذ فلا بأس بقتله وإن لم يقتل أحداً لأنه كان من جملة المقاتلة حين كان ممتنعاً من المسلمين فإن قاتل بعد ما بلغ في أيدي المسلمين ولكن لم يقتل أحداً فإنه يضرب ضرباً وجيعاً ولا يقتل بمنزلة غيره من عبيد المسلمين إذا هم بقتال المسلمين ولم يقتل أحداً منهم وكذلك لو فعل هذا بعض المأسورين من ذوي الآفات لأنه حين أدخل دار الإسلام وهو ممن لا يقاتل فحاله فيما يصنع كحال المستأمن من أهل الحرب يقاتل في دار الإسلام ولم يقتل أحداً. وإن ظفر المسلمون بقوم من الحراثين فسبيهم أحب إلي من قتلهم لأنهم في القصد إلى القتال بمنزلة النساء فإنهم لا يقاتلون ولا يهتمون لذلك وفي سبيهم منفعة للمسلمين حتى يشتغلوا بإقامة عمل الحراثة للمسلمين. ولكن مع هذا إن قتلوهم فلا بأس به لأنهم لهم بنية صالحة للمحاربة والحراثة ليست بلا ذمة وقد يتحول المرء عن الحراثة إلى المقاتلة بخلاف صفة الأنوثة. وإن أصابوا قوماً سكارى فلا بأس بقتلهم في حال سكرهم وإن كانوا ذاهبة عقولهم بسبب السكر لأن السكران في الحكم كالصاحي بدليل سائر تصرفاته وهو بسكره لم يخرج من أن يكون محارباً للمسلمين فلا بأس بقتله. وإذا دخل المسلمون مدينة من مدائن المشركين عنوة فلا بأس بأن يقتلوا من لقوا من رجالهم لأنه موضع المقاتلة منهم فمن وجدوه في ذلك الموضع فالظاهر أنه مقاتل وإنما يبنى الحكم على الظاهر حتى يتبين خلافه. إلا أن يروا رجلاً عليه سيماء المسلمين أو سيماء أهل الذمة للمسلمين فحينئذ يجب عليهم أن يثبتوا في أمره حتى يتبين لهم حاله لأن تحكيم السيماء أصل فيما لا يوقف على حقيقته قال الله تعالى: ولو لقوا في صف المشركين قوماً من المسلمين معهم الأسلحة فلا يدرون أمكرهون على ذلك أم غير مكرهين فإني أحب لهم ألا يعجلوا في قتالهم حتى يسألوهم إن قدروا على ذلك وإن لم يقدروا فليكفوا عنهم حتى يروهم يقاتلون أحداً منهم فحينئذ لا بأس بقتالهم وقتلهم لأن موافقتهم في الدين تمنعهم من محاربة المسلمين وهذا منهم معلوم للمسلمين. فما لم يتبين خلافه لا يحل لهم أن يقتلوهم وبمجرد وقوفهم في صف المشركين لا يتبين خلاف ذلك لأن ذلك محتمل وقد يكون عن إكراه وقد يكون عن طوع فالكف عن قتالهم أحسن حتى يتبين منهم القتال فحينئذ لا بأس بقتالهم لأن مباشرة القتال في منعة المشركين مبيح لدمهم وإن كانوا مسلمين ألا ترى أن أهل البغي يقاتلون دفعاً لقتالهم وإن كانوا مسلمين فبعد ما ظهر هذا السبب لا يمنع قتلهم لأن أكثر ما فيه أنهم مكرهون على ذلك والمكره على القتل يباح للمقصود بالقتل أن يقتله إذا هم بقتله. ولو كانوا سلوا السيوف والمسلمون قليل يخافون إن تركوهم حتى يحملوا عليهم أول مرة أن يقتلوهم وإن كان أكبر الرأي من المسلمين أنهم غير مكرهين فلا بأس بقتالهم فحالهم الآن كحال من دخل على غيره ليلاً شاهراً سيفه واشتبه على صاحب الدار حاله واستدل عليه بحديث علي رضي الله عنه حين قاتل أهل البصرة فإنه قال: لا تبدءوهم بالقتال حتى يقاتلوكم ومقصوده من هذا الاستدلال أن ظهور القتال من بعضهم كظهوره من جماعتهم في حكم إباحة قتالهم ولو قتل مسلم رجلاً منهم بعدما ظهر منهم القتال ثم قامت البينة من المسلمين أن أهل الحرب أخرجوه مكرهاً فلا دية على عاقلته ولا كفارة لأنه قتل شخصاً كان قتله حلالاً مع العلم بحاله وإراقة الدم المباح لا توجب دية ولا كفارة وكذلك إن كان عليه السلاح وهو في صف المشركين ولكنه لم يقاتل أحداً من المسلمين لأن من كان مستعداً للقتال في صف المشركين فهو مباح الدم وإن كان يستحب التبين في أمره عند التمكن من ذلك. ولو أحرقوا سفينة من سفائن المشركين أو أغرقوها وفيها ناس من المسلمين فليس على المسلمين في ذلك دية ولا كفارة لأنهم باشروا فعلاً هو حلال لهم شرعاً مع العلم بحقيقة الأمر. وكذلك لو تترسوا بأطفال المسلمين فأصابهم المسلمون بالرمي إلا أن المستحب لهم ألا يقصدوا المسلمين بذلك لأنهم لو قدروا على التحرز عن إصابة المسلمين فعلاً كان عليهم أن يتحرزوا عن ذلك وإذا عجزوا عن ذلك كان عليهم التحرز بالقصد والنية لأن ذلك في وسعهم. ولو وجب الكف عنهم بهذا لم يتوصل إلى الظهور عليهم لأن كل أهل حصن منهم أو أهل سفينة يخافون على أنفسهم يجعلون معهم في ذلك الموضع أسيراً من أسر المسلمين فيتعذر عليهم لأجل ذلك قتالهم وهذا لا يجوز ألا ترى أنه لو كان معهم في السفينة نساؤهم وصبيانهم فلا بأس بأن تحرق أو تغرق وإن كان لا يحل القصد إلى قتل نسائهم وصبيانهم فكذلك إذا كان معهم في ذلك الموضع قوم من المسلمين أو من أهل الذمة. والله أعلم بالصواب وهو الموفق.
قال: المدين إذا أراد الغزو وصاحب الدين غائب فإن كان عنده وفاء بما عليه من الدين فلا بأس بأن يغزو ويوصي إلى رجل ليقضي دينه من تركته إن حدث به حدث لأن حق صاحب الدين في جنس دينه من مال المدين لا في نفس المدين بهذا الخروج لا يفوت شيء من حقه لأنه متى رجع أخذ دينه من المأمور على الوجه الذي يأخذه من المديون وإنما ذكر لفظة الإيصاء لأن الخارج للغزو يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ويتعرض للشهادة بخروجه في هذا الوجه. ثم المال وإن كان ملكاً للمدين في الحقيقة فهو في الحكم كالمملوك لصاحب الدين فلهذا تجب الزكاة باعتباره على صاحب الدين دون المديون فيكون المديون في معنى المودع ومن في يده ودائع للناس فلا بأس بأن يوصي بها من يدفعها إلى أهلها ويغزو فكذلك الدين أرأيت لو استقرض مالاً وما كان في يده غير ذلك حتى بدا له أن يغزو لم يكن له أن يوصي إلى غيره أن يرده إلى صاحبه إذا حضر فيغزو فهذا لا بأس به فإن كان له أن يخرج لسفر التجارة والحج مع قيام الدين عليه إذا لم يكن في سفره تفويت حق رب الدين فكذلك له أن يغزو وإن لم يكن عنده وفاء بالدين فالأولى له أن يقيم فيتمحل لقضاء دينه لأن قضاء الدين مستحق عليه بعينه والغزو إذا لم يكن النفير عاماً غير مستحق عليه بعينه فالأولى له أن يشتغل باكتساب سبب الإسقاط فيما هو مستحق عليه بعينه وهذا للأصل المعروف أن عند اجتماع الحقوق يبدأ بالأهم. وقضاء الدين أهم من الغزو على ما ورد في الحديث أنه مرتهن بدينه في قبره ما لم يقض عنه وقال لعلي رضي الله عنه حين تبرع بقضاء دين عن ميت: الآن بردت عليه جلدته فإن غزا بغير إذن صاحبه فذلك مكروه له بمنزلة من خرج للحج ولم يدع لعياله ما يكفيهم إن ذلك مكروه له بل أولى لأن نفقة عياله تجب شيئاً فشيئاً وقضاء الدين واجب في الحال. وإذا أذن له صاحب الدين في الغزو ولم يبرئه من المال فالمستحب له أيضاً أن يتمحل لقضاء الدين لأن بإذنه له في الخروج لم يسقط عنه شيء من الدين فالأولى له أنه ينظر لنفسه ويبدأ بما هو الأوجب. وإن غزا في هذه الحالة لم يكن له بأس لأن المنع من الخروج كان لحق صاحب الدين وقد رضي بسقوط حقه فلا بأس بأن يخرج كالعبد يأذن له مولاه في الجمعة فلا بأس بأن يخرج لأدائها. وكذلك إذا كان الدين مؤجلاً وهو يعلم بطريق الظاهر أنه يرجع قبل أن يحل الدين فالأفضل له أن يتمحل لقضاء الدين وإن خرج لم يكن به بأس لأنه ليس لصاحب الدين حق في منعه قبل حلول الأجل فإن ذلك يبتنى على توجيه المطالبة له بقضاء الدين وذلك لا يكون مع بقاء الأجل فهو والمأذون في الخروج سواء. واستدل على أن المقام أفضل له بم قاله النبي صلى الله عليه وسلم في القتل في سبيل الله: إنه كفارة ثم قال: إلا الدين فإنه مأخوذ به كما قال جبرائيل عليه السلام وإن كان أحال غريمه على رجل آخر فإن كان للمحيل على المحتال عليه مثل ذلك المال فلا بأس بأن يغزو لأن ذمته برئت بالحوالة عن حق المحتال وليس للمحتال عليه إذا أدى حق الرجوع عليه بشيء. وإن لم يكن للمحيل على المحتال عليه مال فالمستحب له ألا يخرج لأنه وإن برئ من دين المحتال فذمته مشغولة بحق المحتال عليه على معنى أنه إذا أدى ثبت له حق الرجوع عليه. فإن أذن له في الخروج المحتال عليه دون المحتال فلا بأس بأن يخرج لأنه برئ من حق المحتال وإنما بقي الشغل بينه وبين المحتال عليه ويعتبر إذنه في حقه. وإن كان لم يحل غريمه ولكن ضمن عنه لغريمه رجل المال بغير أمره على إبراء غريمه المديون فلا بأس بأن يغزو ولا يستأمر واحداً منهما لأنه قد برئ من حق الطالب بالإبراء ولا رجوع للضامن عليه بشيء حين ضمن بغير أمره. ولو كان كفل عنه بالدين كفيل بأمره فليس له أن يخرج حتى يستأمر الأصيل والكفيل جميعاً لأنه مطلوب من جهة كل واحد منهما فإن الأصيل يطالبه بالدين والكفيل يطالبه بأن يخلصه مما أدخله فيه من الضمان. وإن كانت الكفالة بغير أمره فعليه أن يستأمر الطالب لبقاء حقه في المطالبة بالدين قبله وليس عليه أن يستأمر الكفيل لأنه لا رجوع للكفيل عليه بشيء ها هنا. وكذلك الكفالة بالنفس في أمر باطل لأنه ادعى قبله فإن كفل بنفسه بأمره فليس ينبغي له أن يغزو إلا بأمر الكفيل لأنه مطلوب من جهته بالخصومة معه ليخلصه مما أدخله فيه. وإن كان كفل بغير أمره فلا بأس بأن يخرج ولا يستأمره لأنه غير مطلوب من جهته بشيء. وإن كان المديون مفلساً وهو لا يقدر أن يتحمل لدينه إلا بالخروج في التجارات مع الغزاة في دار الحرب فلا بأس بأن يخرج ولا يستأمر صاحبه لأن مقصوده هاهنا التحمل لقضاء الدين وهو المستحق عليه بعينه. وإن قال: أخرج للقتال لعلي أصيب ما أقضي به ديني من النفل أو السهام لم يعجبني أن يخرج إلا بإذن صاحب الدين لأن في القتال تعريضاً لنفسه وليس في الخروج للتجارة معنى تعريض النفس فالحاصل أنه إن منعه صاحب الدين فليس له أن يخرج وإن أذن له فلا بأس بأن يخرج وإن لم يشعر هو بذلك فالأولى ألا يخرج إذا كان يمكنه التحمل لقضاء الدين بطريق آخر وإن كان عاجزاً عن ذلك فلا بأس بأن يخرج لما روي أن رجلاً من المسلمين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله صداق امرأة تزوجها وأخبره أنه ليس عنده شيء فقال له: إني أريد أن أرسل أبا قتادة على سرية فاخرج معه لعل الله يغنمك صداق امرأتك فخرج معه إلى حي من بني غطفان فغنموا غنائم وأصاب الرجل ما جمع الله تعالى به إليه امرأته ولم يأمره في استئمارها في الخروج فعرفنا أن ذلك جائز له فإن كان النفير عاماً فلا بأس للمدين أن يخرج سواء كان عنده وفاء أو لم يكن أذن له صاحب الدين في ذلك أو منعه. لأن الخروج ها هنا فرض عين على كل أحد ممن يقدر عليه وهو مما لا يحتمل التأخير وقضاء الدين يحتمل التأخير والضرر في ترك الخروج أعظم من الضرر في الامتناع من قضاء الدين لأن ذلك الضرر يرجع إلى كافة المسلمين فالواجب عليه أن يشتغل بدفع أعظم الضررين وليس لصاحب الدين حق المنع ها هنا فلا يكون على المدين استئماره أيضاً. فإذا انتهى إلى الموضع الذي استنفر إليه المسلمون فإن كان يخاف على المسلمين فليقاتل وإن كان أمراً لا يخاف على المسلمين منه فلا ينبغي له أن يقاتل إلا بإذن غريمه لأن في القتال تعريضاً لنفسه وليس له وفاء بالدين فكأن في اشتغاله به تعريض حق صاحب الدين على الهلاك فلا يستحب له ذلك إلا بإذنه. وإن كان الغريم مكتوب الاسم في الديوان فأمره قائده بالخروج إلى الغزو فليعلم القائد بما عليه من الدين حتى يعلم ذلك الإمام ثم ينبغي للإمام ألا يخرجه إذا كان بحيث يكفي ذلك المهم غيره وإن أبى إلا الخروج فليطع الإمام لأن طاعته في مثل هذا واجبة عليه وبعدما أعلمه عذره إذا لم يعذره وأمره بالخروج فلا شيء أفضل له من طاعته وإن كان لا يقدر على استئذان الإمام ولكنه يخاف أن يحلف للتمحل أنه يذهب عطاؤه فلا بأس بأن يخرج بغير إذن صاحب الدين لأن خروجه هذا من التمحل لقضاء الدين. فإن تمحل الجندي ومعيشته يكون بهذا فإذا انقطع ذلك عنه كان أعد له من قضاء دينه وإن لم يكن على الغازي دين وكان له والدان حيان أو أحدهما فنهياه عن الغزو فالمستحب له ألا يغزو إلا بإذنهما لما روي أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتيتك لأجاهد معك وتركت أبوي يبكيان فقال: اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما وقال آخر: أردت الجهاد معك وإن أمي كرهت ذلك فقال: الزم أمك فإن الجنة عند رجليها وقد بينا جنس هذه المسائل فيما سبق. وعند النفير العام لا بأس له أن يخرج وإن كره ذلك أبواه لأنه بالخروج يدفع عن نفسه وعنهما. وإذا لم يكن النفير عاماً وأمره الإمام بالخروج فليخبره خبر أبويه فإن أمره بالخروج مع ذلك فليطعه قال: لأن الإمام أوجب عليه حقاً في مثل هذا من أبيه وأمه يعني أن من كان مكتوب الاسم في الديوان فعليه طاعة الإمام في الخروج على الوجه الذي يكون على المملوك لسيده. ألا ترى أنه يجبره على الخروج شاء أو أبى وأنه يتبعه في السفر والإقامة كالعبد مع مولاه فكما أن على العبد طاعة مولاه في الخروج وإن كره ذلك أبواه فكذلك الجندي في طاعة الإمام. والعبد لا يغزو بغير إذن مولاه إذا لم يكن النفير عاماً لأن خدمة المولى وطاعته فرض عليه بعينه. وعند النفير العام لا بأس بأن يخرج إلى ذلك المكان بغير إذن مولاه لأنه يدفع بخروجه عن نفسه وعن مولاه وعن سائر المسلمين وليس لمولاه أن يمنعه عند تحقق الضرورة من الخروج ولا من القتال ولا يكون عليه أن يستأمره أيضاً والمكاتب في الخروج للغزو كالعبد لأن هذا لا يدخل تحت الفك الثابت بالكتابة فإن ذلك مقصور على ما فيه اكتساب المال. والحرة يجوز لها أن تخرج إلى الغزو مع المحرم فتداوي الجرحى وتقوم على المرضى ولا تخرج بغير إذن محرم عجوزاً كانت أو شابة إذا كان خروج المسلمين إلى مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها وإن كان خروجهم إلى أقل من ذلك فلا بأس بأن تخرج بغير محرم ولكن إن كان لها زوج فإنها لا تخرج إلا بإذن زوجها إلا إذا كان النفير عاماً وكان في خروجها قوة للمسلمين ولا ينبغي لها أن تلي القتال إذا كان هناك من الرجال من يكفيها لأنها عورة ولا يأمن أن ينكشف شيء منها في حال تشاغلها بالقتال ولأن في قتالها نوع شبهة للمسلمين فإن المشركين يقولون: انتهى ضعف حالهم إلى أن احتاجوا إلى الاستعانة بالنساء في القتال وعند الحاجة لا بأس بذلك لما روي أن نسيبة بنت كعب قاتلت يوم أحد حين انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لمقام نسيبة اليوم كان أفضل من مقام فلان وفلان فقد نوه بذكرها ومدحها على مباشرة القتال عند تحقق الحاجة فعرفنا أنه لا بأس بذلك وإن نهى الإمام الناس عن الغزو والخروج للقتال فليس ينبغي لهم أن يعصوه إلا أن يكون النفير عاماً لأن طاعة الأمير فيما ليس فيه ارتكاب المعصية واجب كطاعة السيد على عبده فكما أن هناك بعد نهي المولى لا يخرج إلا إذا كان النفير عاماً فكذلك ها هنا. والله أعلم.
|